قصص
الفؤاد العليل (الجزء الثاني) 2
محتوى المقالة
قصة قصيرة بعنوان “الفؤاد العليل اقرأ (الجزء اللاول) 1 من هنا” تدور أحداثها حول حياة شاب تعرض لصدمات شديدة في حياته.. أدت به في نهاية المطاف الى الإلحاد.. وسنري معا هل يستمر في طريقه.. أم تمتد له يداً حانية تنتشله من غياهب الفكر والحياة.
توقفنا في الجزء الأول حينما تناقش فؤاد وسدرة حول المأوى النهائي لعباد الله.. تُرى بماذا سيرد فؤاد على سدرة.. لنرى معاً:
هراء
-ولماذا قررت الحديث معي فجأة؟!!
=لأنك..لأنك تشبهين ربما “أمي” يوما لو كانت بقيت على قيد الحياة ولأنني تعبت.. تعبت ..تعبت ،لا أجرؤ على إنهاء حياتي ولا أريد أن أستمر في الحياة كذلك ,فقلت في نفسي لعلي أجد لديكِ خلاصاً..
– حسنا ربما أصبت وتجد لدي الخلاص.. أو ربما أكون أنا مجرد تحقيق لرؤيا صادقة تسللت إلى أحلامك المفزعة..
= ماذا تعني؟!
-أعني ربما يكون خلاصك ف المأوى النهائي لنا نحن “عباد الله” .. “جنة المأوى”..
=هراء ..أتظنيني أصدق تلك الترهات؟! أموت لأبعث وأحاسب فأدخل الجنة.. “الله” خالق ولا إله معبود بحق سواه ..إذا أين كان هذا الإله حينما مات “أبي” وتقطعت أوصاله أمام عيني.. وكنت طفلاً غضاً صغيراً لا أعرف من الدنيا غير ألوان الفراشات وأسمائها.. أين كان و”أمي” تعاني حد الموت، وتموت فعلا دون وداع.. أين هو من كل كوارث العالم.. فيضانات وزلازل وبراكين وحرائق غابات وفقر وجوع ومرض وطمع وجشع وظلم وطغيان وقتل واغتصاب واختطاف وانتهاك حرمات كل بشري وغير بشري، جميل وقبيح.. الدنيا ما هي إلا قُبح كبير، ولن يثنيني كلام العالم عن أفكاري تلك.. أكمل وقد إحتدمت ملامح وجه من الإنفعال وأصبح يصيح ويهتز بشدة: أنا عشت حياة قاسية ولا أظنك وأمثالك قد تشعرون بي..فما بالك وأنتي الطبيبة المرفهة قد تكونين جدة كذلك الآن.. لكِ بيت وأبناء وزوج وربما أحد أبويك مازال على قيد الحياة..دعيني وشأني ابتسامتك الدائمة- وابتسامتك لي الأن-لا دليل لها سوى أنكِ سعيدة وأنا تعيس.. تعيس جداً.. لذا فأفكارنا لن تلتقي أبداً.
وقفت وقبل أن أغادر بهتت ابتسامتي قليلاً ولكنها لم تختفِ ربت على كتفيه وانصرفت مدبرة.
لقد اختفى الصراخ!!
عجيب هذا..منذ تحدثت مع “”سدرة”” والصراخ اختفى ومعه الضباب أيضا..أيكون لديها الخلاص!!
ما هذا المكان الموحش ..بيت خرب مهجور به بقايا أثاث ومعدات تصوير وصورة بحجم الجدار لفرقة “بي تي اس الكورية” ولكنها صورة مقطعة في أجزاء كثيرة منها ..إنه..إنه بيتي يوماً..ما الذي حدث أين الحديقة الغنًاء وأين الألوان الزاهية لجدران البيت وأين صوتي وضحكات “أبي” و”أمي”..وفي وسط تساؤلاتي ظهر “أبي” أمامي” فجاة ممتعضاً.. قال لي: كيف تترك قلبك خرباً هكذا..أهذا عهدناً معاً ..واختفى..فنهضت صارخاً لأرى شعاع نور ضعيف يتسلل من بين ثنايا النافذة.. وكذا قلبي.
في صباح يوم جديد توجهت إلى المشفى وأخذت معي هدية لصاحب الدماغ المصفحة “”فؤاد أفندي”..عندما رأيته جالساً في الحديقة تهللت أساريري وتوجهت إليه وأثناء جلوسي بجواره ألقيت عليه السلام وفتحت الورقة الملفوفة على شكل قرطاس وبدأت في أكل حبات النبق اللذيذ..مددت يدي نحوه ببعض الحبات فأخذها وبدأ في الأكل.
-منذ مات “أبي” وأنا في الثالثة عشر من عمري لم أتذوق نبقاً لذيذاً كهذا..غداً إن شاء الله سوف أحضر لك عنباً لعله يكون لذيذاً كاليوم فمنذ وفاة “أمي” وأنا في السادسة عشر من عمري لم أعد أحب العنب..نظرت إليه بطرف عيني فوجدته توقف عن الأكل..نهضت ووقفت قبالته ونظرت إليه نظرة حانية بابتسامة ودودة وقلت له: لقد وصفتني بالجدة وأنا أصلاً عقيم فلم أصبح يوماً أُما فضلاً عن أن أكون جدة..كاد ينطق بشئ ولكني أكملت سريعاً ربما ظننت أنني سعيدة وأنك التعيس والحقيقة أن الحياة هكذا لا وجود فيها للراحة أو للسعادة ..الفرق بيننا أنني لم أستسلم ولو للحظة واحدة في حياتي أما “فؤاد” صاحب الفؤاد العليل فقد إستسلم من أول جولة..من الثانية لكي أكون منصفة فها، الآن من فينا صاحب السعادة.. أظنه ليس بيننا اليوم..أليس كذلك..
=رد منفعلاً: حسنًا إذاً وطالما أنكِ من التعساء أمثالي لم الابتسام.. ولماذا تعبدين هذا الرب الذي أخذ منكِ من تحبين وجعلك عقيماً كذلك، ثم ضحك بتهكم وقال الدين في الحقيقة هو سيطرة على العقول.. وأنتِ خير دليل على ذلك.
-دليل دليل.. دائماً ما تبحث عن الدليل ..أحسنت لذلك.. ولكن دعني أفكر معك بصوت عال.. أنت تقول أنه لا وجود للإله لأن البشرية في أسوأ حالاتها من قتل وفقر وجوع ومرض وظلم.. إلخ، وأيضا تقول أن الدين هو سيطرة على العقول، لنقل بشكل آخر هو عباءة يختبئ ورائها كل فاشل في حياته لا ذكر له في الدنيا.. باحثاً عن الراحة في عالم آخر اسمه الجنة.. صحيح هذا الكلام..
لم يرد كالعادة، فأكملت قائلة إذا ما الحل برأيك؟ ما الدليل على صدق كلامك؟.. مقولة “الدين باختصار هو سيطرة على العقول”.. ليس رأيك وإنما رأي “جورج كارلن”.. أعلم من الورقة الموضوعة على سريرك أنك ولد وحيد لأب وأم إهتما كثيراً بتنشئتك تنشئة إسلامية وسطية صحيحة.. حتي أنه عند وفاة والدك كنت قاربت على الانتهاء من حفظ كتاب الله.. ثم انفتحت على العالم الافتراضي “فيس بوك” و”أنستجرام” وغيرهم.. ثم أصبحت أنت نفسك مقدم محتوى على منصة “تيك توك”.. كان لك دخل شهري بالدولار اليس كذلك؟؟
=رد منفعلاً: ما دخل حياتي الآن بقناعاتي..
فأكملت: قناعاتك هي أفكارك المتراكمة عبر سنوات عمرك القليلة.. ربما تصادمت سابقاً مع هذه الأفكار الإلحادية والتي أصبحت منتشرة كالنار في الهشيم.. ربما رفضتها كذلك يوماً ما.. ربما قابلتك تلك الأفكار أثناء تصفحك على “تيك توك” أو “يوتيوب” أو غيرهم .. ربما تبنيت هذه الأفكار بعد وفاة والدتك لإحساسك الرهيب بالذنب لتركها تصارع وحدها ..والمقت والغضب الذي تولد لديك لتركك وحيداً في هذه الدنيا_إذا افترضنا جدلاً أنك وحيد فعلاً_ الحقيقة أنك ساخط غاضب ناقم، لست سعيداً ولا حراً في أفكارك وتصوراتك.. بل تتبني أفكار وتصورات أُناس عضوا الأنامل لحظة موتهم.. والتاريخ سجل تلك اللحظات نقلاً عن لسان ذويهم .. أتعلم لو سجلت البشرية حالة واحدة.. واحدة فقط.. لإنسان استطاع الفكاك من مطحنة الموت.. ربما انتابني الشك.. وبحثت كالمجانين عن هذا الترياق الباعث على الخلود.. ولكن الحقيقة أن الموت يتربص.. ومن هذه اللحظة أخشى كثيراً .. كنت ساًبقا مسلماً والآن أنت ملحداً..
الإلحاد لا ينبت إلا على قلب خرب كقلبك سُقي بماء الشهوات والشبهات.
دق قلبي كالطبول لقد قالها لي “أبي” البارحة ..قلبي خرب.. رقرقت عيناي بالدموع فكل ما قالته صحيحاً لا تشوبه شائبة.. أتراها تقرأ أفكاري! هنا قررت أن أُهاجمها …
الصحوة
وقبل أن أنطق باغتتني قائلة: اخترت في حياتي أن يأجرني الله على كل ألم وخوف وحزن وخذلان وانكسار ومعاناة تعرضت لها.. فوفقاً لعقيدتي، ” إنمَا يُوَفى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ”* اخترت حب ربي ” وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ”**.. فضَّلت حياة أخرى سيسألني فيها ربي أرضيتي يا سدرة.. فأقول بملء فمي رضيت يارب.. اخترت أنني لست عدم.. ولن أذهب إلى العدم بعد الموت.. أنا لست تراب- مع أني مخلوقه منه- اخترت أن أرى “أبي” و”أمي” ومن أحب ثانيةً..تيقنت بأن “الله” سيحميني ويهديني ويرزقني ويأويني ويرضيني, رضيت أن أعيش في هذه الدنيا الظالم أهلها وأنا أركن على ركن قوي شديد هو “ربي الله”..
أنهيت كلامي باكية فوجدته باكياً مهتزاً، ثم شاهقاً تتقطع أنفاسه ،ثم صارخاً إلى أن ذهب صوته.. ثم.. فاقداً للوعي.
لم يدم فقدانه للوعي كثيراً.. قمنا بإفاقته وإعطائه مهدئاً فنام نوماً سريعاً ولكنه ليس مريحاً فامتعاض ملامحه جعلني أُدرك حجم معاناته.
دعوت “الله” له كثيراً أن ينجيه من وساوس نفسه وشيطانه فربما تكون هذه الليلة من أصعب الليالي عليه، لقد تكشفت أمامه حقائق كثيرة، ربما أثر عدم مواجهتها منذ وفاة والده.
شأبيب الخلاص
الركض هو الحل..
ظللت أركض وأركض.. تتعثر قدماي فأنهض سريعاً لأركض.. أرى بيتي من بعيد.. البيت الخرب أصبح ملاذي.. أريد أن أصل إلى هناك بأي ثمن.. إلتفتُ للوراء لأرى كم تفصلني مسافة عن هذا الوحش الكاسر الذي يطاردني..فانزلقت قدماي في الوحل.. لم أستطع النهوض بكيت وبكيت.. حانت نهايتي.. ربما آن الأوان أن أستسلم.. نهضت واقفاً مترنحاً فاتحاً للموت ذراعي.. فوجدتني كنت أهرب من..
من نفسي.
كالصورة في المرآه وجدتني أحملق في نفسي فقط أنا موحل بالوحل.. مرهق وخائر القوي.. وهو نظيف مهندم الملابس مبتسم وملئ بالحياة.. مد لي يده وقال ” أَلَمْ يَأن لِلَّذِينَ آمَنُوا أن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أو تُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فطَالَ عليهِمُ الْأَمَدُ فقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسِقُونَ”***
نهضت من نومي هذه المرة ليس صارخاً ولا باكياً وإنما تُربت ابتسامة باهتة على ثغري..هنا وجدتها أمامي ..”أمي”.. في وجه “سدرة”.
نعمة العطاء
بعد مرور35 عاماً..
سمع “فؤاد” طرقات خفيفة على الباب..
تفضل بالدخول.. مرحبا بك.. لاحظت إرتباكك أثناء المحاضرة لذا طلبت لقائك.. أولا دعني أشكرك – وأرجو أن تشكر زملائك أيضاً – على موافقتك الحضور للمحاضرات المباشرة دون الأونلاين.. كم افتقدنا التجمعات البشرية، فربما لم تكن ولدت أساسا حين أطلق ” زوكربرغ” تطبيق “ميتا”.. والذي حول الحياة البشرية إلى مسوخ بشرية في رأيي.. ها.. ما الإشكالية التي تدور في رأسك علنا نحلها سوياً..
رد متلعثما: أشعر أن هذا العالم ليس لي.. أهناك حقاً إله خالق لهذا الكون.. إذا لماذا كل هذا الشر والظلم والمرض والفاقة وال…..
لنترك لهم الحوار، وننظر سوياً علي باب الغرفة التي جمعتهما معاً.. أهذه يافطة خُطت عليها:
عميد كلية الدراسات الإسلامية
د/ فؤادالدين
تمت بحمد الله.
المصادر:
* سورة الزمر أية”10″.
** سورة آل عمران أية “146
***سورة الحديد أية “16”